موضوع الحديبية أناس كثير يفهمونه بشكل خاطئ ولا يعرفون منه سوى قراءة شروط الصلح بشكل سطحي بدون دراية كاملة بما في خفاياه الربانية والتي أنزل الله عز وجل فيها سورة الفتح كاملة وقد سُميت في أولها فتحاً مبيناً ، وذلك واضح فأمنت طريق الدعوة للدين والتي ما كانت كل الحروب التي تحدثنا عنها بمقالات سابقة إلا لتأمين الدعوة.
فتفرّغ عليه السلام لمكاتبة الملوك ورؤساء العشائر يذهب رسله ويؤوبون وهم آمنون من شر قريش وحلفائها وكانت التضحية في نيل هذه الأمور كانت شيء بسيط.
التفاصيل :
أقام النبي عليه السلام بالمدينة إلى ذي القعدة من السنة السادسة وفيه خرج يريد مكة معتمراً لا يريد حرباً وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلموا أنه خرج زائراً معظماً لهذا البيت وكان قد أراه الله عز وجل في منامه أنه هو وأصحابه يدخلون المسجد الحرام آمنين فسار حتى بلغ الحديبية وبركت ناقته القصواء وقد عابها الناس أن بركت فقال لهم دعوها فهي مأمورة.
ولما اطمأن به المقام جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة يسألونه سبب مجيئه فأخبرهم بتعظيم البيت زائرا.ً لا حرباً فرجعوا واخبروا قريش.
اشترطت قريش بأنه لن يدخلها عليهم عنوة وتتحدث بهذا الأمر العرب وبعثوا له رسولاً آخر وهو الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش فلما رآه عليه السلام قال: هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه.
فلما رأى الهدي يسيل عليه عرض الوادي رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله ﷺ إعظاماً لما رأى.
فقالت له قريش أجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك فغضب الحليس وقال : يا معشر قريش ما على هذا حالفناكم أيصد عن البيت من جاء معظماً له؟ والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لننفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا له : مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
وبعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي وأمه وقد جاء إلى المسلمين يرعد ويزبد ويرفع من قوة قريش وقد نال منه سيدنا أبو بكر رداً عليه بما قاله ثم كلمه عليه السلام بما كلم به أصحابه.
فرجع عروة إلى قريش وقد أصابه الهول من شدة احترام المسلمين لرسول الله ﷺ ومحبتهم له وقال لقريش : يا معشر قريش قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً فالرأي رأيكم.
دعا رسول الله ﷺ سيدنا عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما زائر معظماً للبيت المحرم ، فخرج عثمان فلقيه أبان بن سعيد بن العاص بن أمية فحمله بين يديه ثم أجاره حتى يبلغ رسالته.
فبلغها فقالوا له إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله ﷺ واحتبست قريش عثمان عندها فشاع بين المسلمين أنه قتل فلما بلغت تلك الأشاعة النبي عليه السلام قال : لا نبرح حتى نناجز القوم ثم دعا أصحابه إلى البيعة فبايعوه بيعة الرضوان _تحت الشجرة_على أن لا يفروا ثم تبين بعد ذلك بطلان الإشاعة.
بعثت بعد ذلك قريش سهيل بن عمرو العامري وكلفوه بصلح النبي وأن يكون في صلحه رجوع المسلمين بعامهم هذا فوالله لا تحدثت به العرب عن قريش عنوة أبداً فلما رآه النبي قال: أردا القوم الصلح حين بعثوه (سهل الله أمركم) واتفقوا على قواعد الصلح.
فكانت الشروط
- أن يرجع الرسول من عامه فلا يدخل مكة ويدخلها العام القابل فيقيمون بها ثلاثاً معهم سلاح الراكب وسيوفهم بالقرب.
- وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين يأمن الناس بها ويكف بعضهم عن بعض.
- من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرد عليه.
- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعهده دخل فيه ثم كتب الكتاب بذلك.
هذا وقد كانت حال المسلمين عندما انتهى الصلح شديدة لما رأوه من رجوعهم دون أن يطوفوا بالبيت وظن بعضهم أنها لا تليق بالمسلمين وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال بلى، قال أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال النبي عليه السلام أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.
فتحلل المسلمون من عمرتهم بنحر الهدي وحلق الرؤوس أو تقصيرها.
وقد سماها الله عز وجل بالفتح المبين لما قد تم من أحداث كانت كلها في صالح المسلمين بحكمة ربانية خالصة.
وقد أعلن رب العزة رضاه عن أصحاب البيعة وبيّن ربنا عز وجل في سورة الفتح الأسباب التي من أجلها امتنع رسول الله ﷺ عن الحرب وتكلم سبحانه عن رؤيا رسول الله (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين....) وختم السورة بوصف أصحاب رسول الله ﷺ وتمثيلهم بأحسن تمثيل بعد أن تكلم عن أمر الأعراب الذين تخلفوا عنه حين خرج إلى الحديبية.
ما بعد الحديبية ليس كما قبله وموضوع الاضطباع
فمن لم يستطيع اللحوق بالمسلمين ضمناً للشروط المتفق عليها أصبح يذهب إلى رجل أسمه (أبو بصير) وكان قد أسلم ولم يستطع اللحاق بالمسلمين فأصبحت شوكته تقوى والذين يسلمون يذهبون إليه مؤقتاً حتى تنتهي الفترة المتفق عليه بالشروط.
فأصبحوا يضربون مصالح قريش وقوافلهم فطلبت قريش من النبي لاحقاً أن يزيل الشرط الذي يريد اللحاق بالمسلمين فله ذلك حتى تأمن من أبو بصير وصحبه فسبحان الله العزيز الحكيم الذي ينصر عباده من غير حول ولا قوة لهم بتدبير رباني يعجز العقل البشري عن وصفه.
يهود خيبر
هذا وكان يهود خيبر يتبرصون للثأر لما حصل لهم بأيدي المسلمين وخلال الهدنة مع قريش تفرّغ لهم رسول الله ﷺ وسار إليهم في محرم السنة السابعة حتى حلّ بساحتهم وفتح حصونهم حتى جاء آخرها وصالح أهلها على أن يبقوا فيها ويدفعوا نصف ما يخرج من أرضهم وللمسلمين الحق بأخراجهم إذا شاؤوا .
وادي القرى
وبعدها ذهب عليه السلام إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي ثم عاد المدينة بعد أن صالحهم مثل أهل خيبر وبهذه الفترة قد جاء من بقي من المسلمين وفي مقدمتهم جعفر بن أبي طالب من الحبشة على أثر بعث رسول الله ﷺ إلى النجاشي أحد الصحابة فرجعوا مع نسائهم وأبنائهم إلى المدينة.
ما هو الاضطباع ؟
وبعد أن حال الحول على عمرة الحديبية خرج عليه السلام بأصحابه الذين صُدوا في العام الماضي ليقضوا تلك العمرة التي فاتتهم حسب عهد الحديبية فوصل إليها في شهر ذي القعدة من السنة السابعة.
وخرج أهل مكة منها ودخلها المسلمون وكانت قريش تتحدث أن أصحاب محمد في جهد وشدة (حمى يثرب زعموا) ووقفوا أمام دار الندوة مصطفين ينظرون حال المسلمين فلما دخل عليه السلام اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى.
وقال عليه السلام :
رحم الله امرءًا أراهم اليوم قوة من نفسه ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الحجر الأسود ثم هرول كذلك ثلاثة أطوال ومشى سائرها.
فأقام عليه السلام بمكة ثلاثاً ثم انصرف إلى المدينة في ذي الحجة.