بعد هذه الواقعة فلمّا كان ما كان من واقعة السقاطيّة (مقال السابق) شرع سيدنا عمر بن الخطاب يبعث المدد إلى المثنى ، ومنهم جرير بن عبد الله البجلي في قومه من بني بجيلة فلمّا علم المثنى بقدومهم طلب منهم أن يسيروا إليه حتى يقابلوه على البويب (نهر بالعراق موضع الكوفة يأخذ من الفرات).
وكان رستم قد أرسل جنداً مع قائد اسمه مهران ، فوقف أمامهم ويفصل بين الفريقين الفرات فأرسل مهران إلى المثنى يخيّره بين أن يعبر بجنوده أو يعبر مهران إليه؟؟ وكان الجواب أن يعبر مهران لأن واقعة الجسر لم يمح أثرها. فعبر مهران وكان ذلك في رمضان وأمرهم المثنى أن يفطروا.
وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ودنوا من المسلمين وطاف المثنى في صفوفه يعهد إليهم وهو على فرسه الشّموس ، يحرضهم ويهزّهم ويقول: إني لأرجو أن لا يؤتى الناس من قبلكم اليوم، والله ما يسرّني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرّني لعامّتكم. فيجيبوه بمثل ذلك.
فأنصفهم بالقول والفعل وقال لهم من ضمن ما قال: إنّي مكبرٌ ثلاثاً فتهيّأوا ثم احلموا في الرابعة فلمّا كبّر الأولى أعجلتهم فارس وخالطوهم . وركدت خيلهن وحربهم ملياً، فرأى المثنى خللاً في بني عجل، فأرسل إليهم يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم . فقالوا : نعم ، واعتدلوا فضحك فرحاّ.
فأشتد القتال أيما شدّة وقد جُرح مسعود أخو المثنى وجماعة من أعيان المسلمين فتضعضع من معه فقال: يا معشر بكر ارفعوا رايتكم رفعكم الله، ولا يهولنكم مصرعي! وكان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أُصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه ، الزموا مصافّكم وأغنوا غناء من يليكم.
وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه.
فلما رأت مجنبات المسلمين القلب قد هزم القلب وثبوا على مجنبات فارس وجعل المسلمون في القلب يدعون لهم وجعل المثنى يرسل لهم من يقول (عاداتكم في أمثالكم انصروا الله ينصركم) حتى هزموا الفرس وسبقهم المثنى إلى الجسر فقطعه وأخذ طريقهم فتشردت فارس في الأرض وجعلت السيوف تأخذ منهم فقتلوهم حتى جعلوهم جُثّاً وبقيت عظامهم مرمية في الأرض دهراً طويلاً وكانت عدد قتلاهم قرابة ١٠٠ ألف مشرك.
ما هو يوم الأعشار ؟
وسُمّي ذلك اليوم الأعشار أُحصي مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة.
وقُتل المشركون فيما بين السّكون اليوم وضفة الفرات وتبعهم المسلمون إلى الليل ومن الغد إلى الليل وندم المثنى على قطعه الجسر وقال : عجزت عجزة وقى الله شرّها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم فلا تعودوا أيها الناس لمثلها فإنها كانت زلة فلا ينبغي إحراج من يقوى على امتناع.
ومات أخو المثنى وأُناس جرحى وشهدهم المثنى وصلى عليهم وقال: والله إنه ليهون وجدي أن صبروا وشهدوا البويب ولم ينكلوا.
وأصاب الرعب قلوب فارس من هذه الوقعة وأقام المثنى بعد ذلك يصعد ويصوب في الجزيرة ويبث السرايا للإغارة.
وقد أصاب المسلمون غنماً ودقيقاً وبقراً وأرسل المثنى من يسير خلف الفرس ويطاردهم.
مباغتة العدو والتوغل أكثر في أرض السواد
وبعد الوقعة التي هلك فيها 100 ألف مشرك خلّف المثنى بالحيرة بشير بن الخصاصيّة ، وسار يمخر السواد وأرسل إلى ميسان ودستيمان وأذكى المسالح ونزل أُلَّيس وتسمى هذه الغزوة غزوة الأنبار الآخرة.
وذهب إلى سوق الخنافس التي يجتمع بها تجار مدائن كسرى والسواد وربيعة وقضاعة يخفرونهم وأغار عليها يوم سوقها فنسف السوق وما فيها، وسلب الخُفراء.
وقد عاد الأنبار فتحصّن أهلها وأظهر لدهقان الأنبار أنه يريد المدائن، وسار منها إلى بغداد ليلاً وعبر إليهم وصبحهم في أسواقهم، فوضع السيف فيهم وأخذ ما شاء.
وقال المثنى: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة والحُرّ من كل شيء ، ثم عاد راجعاً فسمع أصحابه يقولون :ما أسرع القوم في طلبنا ، فخطبهم وقال: احمدوا الله وسلوه العافية، وتناجوا بالبرّ والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان ، انظروا في الأمور وقدّروها ثم تكلموا. إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم.
إن للغارات روعات تُضعف القلوب يوماً إلى الليل ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على العراب حتى تنتهوا إلى عسكركم، ولو أدركوكم لقاتلتهم التماس الأجر ورجاء النصر ، فثقوا بالله وأحسنوا به الظنّ ، فقد نصركم في مواطن كثيرة.
ثم سار بهم إلى الأنبار، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السواد ويشنون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات.
وأخذ المثنى يطوف في البلاد فحارب أحياء من تغلب بصفين و وغيرها وقد لحق بجمهور قد انتجع شاطىء دجلة فخرج المثنى في طلبهم حتى أدركهم بتكريت فأصابوا ما شاؤوا من النعم وعاد إلى الأنبار.
وقد وصلت تلك الأخبار إلى أهل فارس فجعلوا يبدأون بحلول لتدارك الموقف بعد خسارتهم لبغداد ومعظم أرض السواد.
المرجع: الكامل في التاريخ