بداية نذكر خبر البصرة وذكر تأمينها وولايتها وفتح الأبلة
كان سيدنا عمر يتخوف أن يؤتى المسلمون من جهة الأبلة لأنها لم تكن فتحت بعد، فتخيّر فصيلة من جيش سعد بن أبي وقاص وجعل عليها سيدنا (عتبة بن غزوان) ووجهها نحو الأبلة لقطع إمداد فارس من هذا الوجه ، فساروا حتى أتوا مربد البصرة فنزلوا هناك واختطوا مدينة البصرة ونزل الجند منازلهم فيها.
وقد واجههم من كان عليها بأربعة آلاف فقتلهم عتبة وصحبه عن آخرهم وأسر من كان عليهم.
وتم فتح الأبلة وهي مرفأ فارسي على خليج عمان الذي يوصل إلى بحر الهند ، وصار هذا المرفأ عظمياً تصل إليه الجند لحرب فارس.
وقد بعث سيدنا عتبة بالفتح إلى سيدنا عمر وتولى أمر البصرة ولم يتم تمصير البصرة بهذا الوقت بل تم لاحقاً (سيرد ذكرها).
هذا وقد كتب سيدنا سعد عدة كتابات إلى سيدنا عمر شرح له فيها النصر في أول كتاب والوضع العام في مناطق السواد في كتب ثانية (أهل الذمة والفلاحين الذين كثر عددهم ).
كتاب النصر
بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
"من سعد بن أبي وقاص، إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. . . . وبعد،
فإن اللَّه نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يَرَ الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم اللَّه بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين. وقد اتبعهم المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج"
فتح المدائن وهروب كسرى
ارتحل سيدنا سعد بعد القادسية وعلى مقدمته زهرة بن الحوية ولقيتهم في سيرهم جنود فارسية من الفلول وفيها بعض قادتهم ومنهم الهرمزان فحاربهم وغلب غليهم ثم بلغه أن هناك جنود قد تجمعت على الفرزان فلحق بهم وهزمهم بحرب سريعة.
فتفرق رؤساء الفرس ، فسار الهرمزان نحو الأحواز وخرج الفرزان نحو نهاوند والباقون إلى المدائن وقطعوا الجسر.
فأقام سعد في بابل أياماً ثم سيّر المقدمة مع زهرة بن الحوية حتى وصلت المقدمة (بهرسير) وهي المدائن الدنيا على شاطىء دجلة وتلاحقت به الجنود.
وفي مقام سعد على بهرسير راسلته الدهاقين وطلبوا الجزية فقبل منهم ، وحاصروا بهرسير شهرين ثم فتحوها بعد هروب حاميتها إلى المدائن الشرقية فنزل سعد ببهرسير ودلهم نفر من أهل البلاد على مخاظة يعبرون منها النهر.
فكان سعد يريد السرعة بالعبور حتى لا ينقل يزدجرد ذخائره وأمواله و ولم يكن هناك مراكب فخاظ المسلمون على خيولهم بحول الله وقوته فعبر المسلمون النهر ولم يسقط منهم أحداً ، فقال بذلك الناس الكثير من الشعر وقال غيرهم عن تذليل الله عز وجل للناس البرّ والبحر للخلق.
وقد أصاب أهل فارس لما رأوه الذهول فهربوا وهرب كسرى على وجهه و كان قد أرسل عائلته إلى حلوان أما أهالي المدائن جلسوا راضين بالجزاء والذمة.
ودخل سيدنا سعد القصر الأبيض وهو يتلو قول الله عز وجل ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) الدخان
وصلى فيه صلاة الفتح 8 ركعات وأتم الصلاة يوم دخول المدائن لأنه أراد المقام فيها ، وشرع سيدنا سعد والجند بجمع الغنائم والأموال والتفاصيل :
عففتَ فعفّت الرعيّة قالها سيدنا علي رضي الله عنه لسيدنا عمر رضي الله عنه وذلك بعد أن وصلتهم غنائم المدائن التي أرسلها سيدنا سعد رضي الله عنه.
والتفاصيل:
وشرع سيدنا سعد بجمع الغنائم من القصور والإيوان والدور وأحصى ما يأتيه به الطلب، وكان أهل المدائن قد نهبوا عند الهزيمة، وهربوا في كل وجه، فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب، فأخذوا ما معهم.
وقد أدرك الطلب جماعة من الفرس على جسر النهروان فازدحموا عليه فوقع منهم بغل في الماء، فعجلوا وكبّوا عليه، فقال بعض المسلمون : إنّ لهذا البغل لشأناً ، فجالدهم المسلمون عليه حتى أخذوه وكان فيه حلية كسرى، ثيابه وخزرته ووشاحه ودرعه التي فيها الجواهر، وكان يجلس فيها للمباهاة.
وقد أدرك القعقاع بن عمرو فارسياً فقتله وأخذ منه عيبتين في إحداهما خمسة أسياف وفي الأخرى ستة أسياف وأدرع منها درع كسرى ومغافره ودرع هرقل ودرع خاقان ملك الترك ودرع داهر ملك الهند ودرع بهرام جوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان ، والسيوف من سيوف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبرهام وسياوخش والنعمان فأحضر القعقاع الجميع عند سعد فخيّره بين الأسياف فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام ونفّل سائرها في الخرساء، إلا سيف كسرى والنعمان، بعث بهما إلى سيدنا عمر لتسمع بذلك العرب وحسبوهما في الأخماس وكذلك بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى سيدنا عمر ليراه المسلمين.
وكان من ضمن الغنائم الشيء الكثير الكثير من الذهب والفضة والياقوت والزمرد ولما رأى سيدنا سعد كيف صنع الجنود بجلب كل الطلب وتفانيهم بجمعها عنده قال: والله إن الجيش لذو أمانة ولولا ما سبق لأهل بدر لقلتُ إنهم على فضل أهل بدر.
وقال جابر بن عبد الله: والذي لا إله إلا هو، ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة ، فلقد اتّهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كأمانتهم وزهدهم.
وقال سيدنا عمر لما قُدم عليه بسيف كسرى ومنطقته وبزبرجه: إن قوماً أدّوا هذا لذوو أمانة. فقال سيدنا علي: إنك عففت فعفّت الرعيّة.
وقد قسّم سيدنا سعد الفيء بعدما خمّسه وكانوا ستين ألفاً فأصاب الفارس اثنا عشر ألفاً وكلهم كان فارساً ليس فيهم راجل (غنائم خيول الفرس سببت ذلك)
وأرسل سيدنا سعد في الأخماس كل شيء أراد أن يعجب منه العرب وقد أرسل القِطف قِطف كسرى الذي كان طوله ستون ذراعاً وعرضه مثل طوله مزخرف بحرير وقضبان ذهب وثمره الجوهر وأشباه ذلك من الأشياء الثمينة جداً وكانت العرب تسمّيه القِطف.
وقد أثنى الناس على أهل القادسية فقال سيدنا عمر: أولئك أعيان العرب
ولما رأى سيدنا عمر سيف النعمان سأل جبير بن مُطعم عن نسب النعمان، فأجابه: كانت العرب تنسبه إلى أشلاء قنص، وكان أحد بني عجم بن قنص، فجهل الناس عجم فقالوا لخم ، فنفّله سيفه.
وولّى سيدنا عمر سيدنا سعد بن أبي وقاص صلاة ما غلب عليه وحربه.
وولى الخراج النعمان وسُويداً ابني مُقرن، سُويداً على ما سقت الفرات والنعمان على ما سقت دجلة ، ثم استعفيا فولّى عملهما حُذيفة بن أُسيد وجابر بن عمرو المزني وبعدهما حُذيفة بن اليمان وعثمان بن حُنيف.
رضي الله عنهم أجمعين.