فلما أصيب يوم بدر من قريش من أصيب ذهب العديد من رجالاتهم إلى أبي سفيان فكلموه إن آبائهم وإخوتهم وتجارتهم وقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بالمال على حربه، فلعلنا ندرك ثأرنا بمن أصابه منا ففعلوا واجتمعت قريش لحرب المسلمين بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة وخرج معهم أيضاً (أبو عزة الجحمي الذي منّ عليه رسول الله يوم بدر وأطلقه بتحريض من صفوان بن أمية وقد دعى قبائل كنانة وهو في المسير).
وقد دعا جبير بن مطعم غلاماً حبشياً يقال له وحشي قلما يخطىء بقذف حربته وطلب منه قتل حمزة عم النبي لقاء عتق رقبته ومال يصيبه.
فخرجت قريش بحدها وجدها وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة (مقابل المدينة).
لما سمع بهم رسول الله ﷺ استشار أصحابه أيخرج إليهم أم يقيم في المدينة؟ فقال له أبن سلول وكان رأس في الأنصار إلا أنه يضمر نفاقاً، نرى أن نقيم بالمدينة وندعهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان ذلك رأي رسول الله لكن كان رأي جمهورهم الخروج إليهم.
فدخل عليه السلام بيته فلبس لامته وذلك في شهر شوال وبعد فروغه من الصلاة خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله ﷺ ولم يكن لنا ذلك فلما خرج عليهم قالوا استكرهناك يا رسول الله ولم يكن ذلك لنا فإن شئت فاقعد فقال عليه السلام: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل فخرج عليه السلام في ألف من الصحابة حتى إذا كان في الشوط انخذل عنه ابن سلول بثلث الناس وقال أطاعهم وعصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا هنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من قومه وهم أهل نفاق وريب.
ومضى رسول الله ﷺ حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى جبل فجعله ظهره وعسكر إلى أحد وقال لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال ثم تعبى عليه السلام القتال وهو في (700) رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وقال له انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.
وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير وعديد قريش 3000 رجل ومعهم 200 فرس قد جنبوها وعلى ميمنة خيلهم خالد بن الوليد وميسرتها عكرمة بن أبي جهل.
وقال أبو سفيان لأصحاب اللواء: يا بني عبد الدار إنكم توليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قدر رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهمّوا به وتواعدوا وقالوا سترى كيف نصنع وذلك ما اراده أبو سفيان.
أحداث المعركة
التقى الناس ودارت الحرب وقاتل رجالات المسلمين فأبلوا بلاء حسناً فأنزل الله عليهم نصره وصدقهم وعده فحسوا عدوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة لا شك إلا إن الرماة لمّا رأوا المشركين انكشفوا مالوا إلى العسكر وخلوا ظهور المسلمين للعدو فالتفت خيالة المشركين بقيادة خالد بن الوليد حتى جائهم من خلفهم وبعضهم مشتغل بالغنيمة فاختلت صفوفهم.
أخذت لواء المشركين عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به وتراجعوا لما رأوا الخلل في صفوف المسلمين حتى دهشوا ومما زاد في دهشتهم أن رجلاً قتل مصعب بن عمير وأذاع عند قتله أن محمداً قد قتل فكان هذا الخبر شديداً على المسلمين فانكشفوا فأصاب فيهم العدو وكان يوم بلاء وتمحيص.
وقد خلص المشركين إلى رسول الله ﷺ حتى رمي بالحجارة ووقع على شقه فأصيبت رباعيته وشج وجهه الشريف وكلمت شفته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع في حفرة من الحفر التي كان قد حفرها أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون فأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً ولما غشيه القوم قام دونه خمسة نفر من الأنصار يردون عنه العدو ثم قام فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه.
وقامت في ذلك اليوم نسيبة بنت كعب وهي ممن بايع يوم العقبة وكانت أول النهار تسقي الماء فلما رأت هزيمة المسلمين انحازت إلى رسول الله وباشرت القتال وصارت تذب عنه بالسيف والقوس وجرحت يومها جرحاً شديداً.
وقد استبسل المهاجرون والأنصار ومنهم أبو دجانة وكان النبل يقع في ظهره وهو منحن على رسول الله حتى كثر فيه النبل.
كان بعض المسلمين ترك الموقعة لظنه قتل الرسول حتى عرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله فأشار عليه السلام أن انصت فعاد بعض من انهزم إليه ونهض معهم نحو الشعب معه كبار أصحابه وذوو الأثر الصالح في هذه الموقعة وأقبل حينها أبي بن خلف يقول لا نجوت إن نجى محمدا وحينها طعنه النبي عليه السلام بجرح أصابه فمات منه على الطريق وهو عائداً مكة وهو الرجل الوحيد الذي قتله عليه السلام بيده.
وقدم علي بن أبي طالب بماء وغسل عن وجه النبي الدم وصب على رأسه وعلت قريش الجبل فذهب إليهم من المسلمين من أنزلهم عنه.
يظهر أن قريشاً رأت بما فعلت أنها قد شفت غليلها من عار بدر فاكتفت به وعولت على الانصراف فصعد أبو سفيان ربوة ونادى بصوته وقال:
إن الحرب سجال يوم بيوم بدر أعل هبل ، فقال عليه السلام قم يا عمر فأجبه فقل الله أعلى وأجل لا سواء، قتلانا بالجنة وقتلاكم في النار.
فلما سمع أبو سفيان صوته قال له : هلم إلي يا عمر فقال له الرسول: أئته فانظر ما شأنه فجاءه فقال أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً؟ قال عمر اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن . فقال أبو سفيان: أنت أصدق عندي من أبن قمئة وأبر.
وقال أبو سفيان إنه كان في قتلاكم مثل والله ما رضيت وما سخطت وما أمرت وما نهيت وإن موعدكم بدر للعام المقبل فأمر عليه السلام من يقول له نعم هو بيننا وبينك موعد.
وكان عليه السلام يريد أن يعلم ذات نفس قريش أيريدون المدينة أم مكة فأرسل علي بن أبي طالب فقال اخرج في أثر القوم فانظر ماذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم فخرج علي في أثرهم فرآهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة.
وفرغ المسلمين إلى قتلاهم وكان منهم حمزة بن عبد المطلب.