قدمنا في مقالات سابقة ما كان من الفتوح في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد فتح في مدة لا تزيد عن عشر سنوات دولة فارس كلها وأعمل السيف في رقاب قادتهم وجبابرتهم حتى وقف المسلمون من جهة الشرق على نهر السند ونهر جيجون.
وفتح من بلاد الروم جزءاً عظيماً وهو بلاد الشام وكذالك وصلت خيول المسلمين إلى طرابلس الغرب ، كان إلى جانب ذلك كله حياة ثانية في ما يتم فتحه وما كان في يد المسلمين من قبل.
فكانت فترته أساساً عظيماً لكثير من المدينة الإسلامية ، فمقدار هذا الرجل العظيم الذي ساس العرب بسياسة لم تعرف لغيره متأسياً برسول الله ﷺ و أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه.
فقد ساد العدل في ربوع دولة المسلمين وفي أهل ذمتهم الذين اغتبطوا بما لاقوه من عدل المسلمين فيهم وقد كان حازماً في التعامل مع ولاة الأمصار فأي شكوى بسيطة كانت تودي بعزل الأمير (قصة عزل سيدنا سعد بالرغم أنه كان مظلوم وقتها لكن حزم سيدنا عمر جعله يعزله)
وقبل الشروع بما كان له من عمال وحال القضاء وبعض سيرته سنورد بعض الأحداث التي كانت في عهده ونبدأها :
توسعة بيت الله المحرّم
ففي سنة سبعة عشر للهجرة ، اعتمر سيدنا عمر وبنى في المسجد الحرام ووسّع فيه ، وأقام بمكة عشرين ليلة ، وهدم على قوم أبو أن يبيعوا ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أتوا وأخذوها لاحقاً.
وكانت عمرته في رجب واستخلف على المدينة حينها زيد بن ثابت ، وأمر بتجديد أنصاب الحرم فأمر بذلك :
(مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحُويطب بن عبد العزى وسعيد بن يربوع)
واستأذنه حينها أهل المياه في أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة ، فأذِن لهم ، وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
كما وفي هذه السنة تزوّج سيدنا عمر أم كلثوم بنت سيدنا علي بن أبي طالب وهي بنت فاطمة بنت رسول الله ﷺ ، ودخل بها في ذي القعدة ، وقيل أن بعدها بسنة قد حوّل سيدنا عمر المقام وكان ملصقاً بالبيت وحج فيها بالناس ، المصدر الكامل في التاريخ.
عام الرمادة و القحط
ففي سنة 18 للهجرة أصاب الناس مجاعة شديدة وقحط وهو عام الرمادة ، وكانت الريح تسفي تراباً كالرماد فسُمي عام الرمادة ، واشتدّ الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس ، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قيحها.
وفي هذه السنة قد شرب بعض الناس في الشام خمراً فأرسل سيدنا أبو عُبيدة في شأنهم كتاباً إلى سيدنا عمر أنهم يتأولون في شرب الخمر فكان ردّ سيدنا عمر أن يجلدهم إن قالوا عن الشرب حراماً فشربوه وأن يضرب أعناقهم إن قالوا حلالاً (يعني استحلال ما حرمه الله عز وجل).
وقال سيدنا أبو عُبيدة ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث فكان عام الرمادة هذا وكان طاعون عمواس في نفس العام (وسيأتي ذكر طاعون عمواس لاحقاً).
وأقسم سيدنا عمر أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيى الناس وكتب سيدنا عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة وما حولها ويستمدّهم ، فكان أول من قدم عليه سيدنا أبو عُبيدة في أربعة آلاف راحلة من طعام ، فولاه سيدنا عمر قسمتها فيمن حول المدينة فقسمها وانصرف إلى عمله وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز.
وأصلح سيدنا عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام إلى المدينة فصار الطعام في المدينة كسعر مصر ، وكان سيدنا عمر كالمحصور عن أهل الأمصار وقد قال أهل بيت لصاحبهم (وهم من مُزينة): أذبح لنا شاة قال : ليس فيهن شيء ، فطلبوا منه ثانيةً، فذبحها فسلخها عن عظم فقط ! فنادى يا محمداه.
فأُرى في المنام أن رسول الله ﷺ أتاه فقال: أبشر بالحياة ائت عمر فأقرئه مني السلام وقل له: إني عهدتك وأنت وفي العهد، شديد العقد فالكيس الكيس يا عمر.
فجاء حتى أتى باب سيدنا عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول رسول الله ﷺ فأتى سيدنا عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسا قال لا: فأدخله وأخبره الخبر، فخرج فنادي في الناس وصعد المنبر فقال: نشدتكم الله الذي هداكم هل رأيتم [مني] شيئا تكرهون؟ قالوا: اللهم لا، ولم ذاك؟ فأخبرهم ، ففطن الناس لصلاة الاستسقاء.
فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا ، فنادي في الناس وخرج معه سيدنا العباس ماشيا فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم عجزت عنا أنصارنا وعجز عنا حولنا وقوتنا وعجزت عنا أنفسنا ولا حول ولا قوة إلا بك،اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد!
وأخذ بيد سيدنا العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ﷺوإن دموع سيدنا العباس لتتحادر على لحيته فقال سيدنا عمر: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك ﷺوبقية آبائه وأكبر رجاله فإنك تقول وقوله الحق: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) فحفظتهما بصلاح آبائهما فاحفظ اللهم نبيك ﷺ في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين مستغفرين. ثم أقبل على الناس فقال: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا).
وكان العباس قد طال عمره وعيناه تذرفان ولحيته تجول على صدره وهو يقول: اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد صرخ الصغر، ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون.
فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون ترون ثم التأمت، ومشط فيها ريح، ثم هدأت ودرت، فوالله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار وقلصوا المآزر، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون: هنيئا لك ساقي الحرمين، فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعَمّي سَقى اللَهُ الحِجازَ وَأَهلَهُ**عَشِيَّةَ يَستَسقي بِشَيبَتِهِ عُمَر
تَوَجَّهَ بِالعَبّاسِ في الجَدبِ راغِباً**فَما كَرَّ حَتّى جاءَ بِالديمَةِ المَطَر
وَمِنّا رَسولُ اللَهِ فينا تُراثُهُ**فَهَل فَوقَ هَذا لِلمُفاخِرِ مُفتَخَر
طاعون عَمَواس وخبر بعض من مات فيه
ففي سنة ثمان عشرة للهجرة أصاب الناس طاعون وبدأ من منطقة عمواس من أرض الشام ، ولم يكن بدايةً ذو فتك كبير وقد كان سيدنا عمر قد خرج بالناس غازياً ومعه المهاجرين والأنصار.
ولما وصل منطقة سرغ (أول الحجاز وآخر الشام) لقيه أمراء الأجناد وفيهم سيدنا أبو عُبيدة ، فأخبروه عن الوباء وشدّته ، فجمع المهاجرين الأوّلين والأنصار فاستشارهم بالتقدم إلى العمق أم الرجوع إلى المدينة فاختلفوا عليه ، فمنهم القائل خرجت لوجه الله فلا يصدّك عنه هذا ، ومنهم القائل : إنّه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه.
فقال لهم : قوموا ، ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعوْد، فنادى سيدنا عمر بالناس: إني مُصبِّح على ظهر (يعني راجع المدينة).
فقال سيدنا أبو عُبيدة : أفراراً من قدر الله؟ فقال سيدنا عمر لو أن غيرك قالها (معاتبة خفيفة وتُبيان مكانة سيدنا أبو عُبيدة العظيمة في نفس سيدنا عمر) نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عُدوتان ، إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
فسمع بهم سيدنا عبد الرحمن بن عوف وكان وقتئذٍ غائباً لبعض شأنه ، فقال : إن عندي بذلك علماً ، سمعت رسول الله ﷺ قال ((إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا منه))
فانصرف سيدنا عمر بالناس إلى المدينة ورأيه الذي عزم عليه موافقاً للحديث النبوي.
( تنويه: لو كان يعلم سيدنا عمر بالحديث قبل أن يستشير أصحابه لعمل به وما كان له الخيرة من أمره إذا قضى الله ورسوله أمراً).
ورجع أمراء الأجناد إلى عملهم وقد أشتد الوباء بشكل كبير حتى فتك بالناس فأهلك منهم الكثير ، وقيل أن سيدنا عمر قد كتب لسيدنا أبو عُبيدة ليستخرجه ( سلام عليك أما بعد فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألّا تضعه من يدك حتى تُقبل) فعرف سيدنا أبو عُبيدة ما أراد، فكتب إليه :
《يا أمير المؤمنين ، قد عرفتُ حاجتك إليّ وإنّي في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبةً عنه، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره وقضاءه فحلّلني من عزيمتك》
فلما قرأ سيدنا عمر الكتاب بكى، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أمات أبو عُبيدة ؟ فقال : لا ، وكأن قد.
وكتب إليه سيدنا عمر ليرفعنّ بالمسلمين من تلك الأرض وكان سيدنا أبو عُبيدة أراد أن يركب بعيره فطُعن وقال : والله لقد أُصبت ! ثم سار حتى نزل الجابية.
وقام بالناس فقال لهم : إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم وإن أبا عُبيدة سأل الله أن يقسم له من حظّه ، واستخلف على الناس سيدنا معاذ بن جبل ثم مات رضي الله عنه.
وقد أرسل سيدنا معاذ كتاباً إلى سيدنا عمر أخبره الخبر وبكى سيدنا عمر بكاءً شديداً.
وخطب سيدنا معاذ بالناس فقال : أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظّهم. فطُعن ابنه عبد الرحمن فمات ثم قام فدعا به لنفسه فطُعن في راحلته.
فلقد كان يقبّلها (أي الراحلة_بعيره) ثم يقول : ما أُحب أنّ لي بما فيك شيئاً من الدنيا.
واستخلف على الناس سيدنا عمرو بن العاص فخرج سيدنا عمرو بالناس إلى الجبال وقيل أنه قال لهم أن البلاء كالنار وأنتم وقودها فتفرقوا حتى يرفعه الله ، ورفعه الله عنهم فلم يكره سيدنا عمر ذلك من سيدنا عمرو.
وقد مكث هذا الطاعون شهوراً وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله قطّ ، حتى طمع له العدو في المسلمين لطول مكثه وقد أصاب الناس بالبصرة مثله وكان عدة من مات فيه خمسة وعشرين ألفاً حتى ضاعت المواريث من الكثرة.
وكان ممن مات فيه أيضاً سيدنا (يزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعتبة بن سهيل وعامر بن غيلان الثقفي ).
((معنى قول دعوة نبيكم حين جاءه جبرائيل عليه السلام فقال : فناء أمّتك بالطعن أو الطاعون فقال رسول الله ﷺ فبالطاعون )) أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
وقد أتى سيدنا عمر بعد الطاعون إلى الشام واستخلف على المدينة سيدنا علي بن أبي طالب وقسّم الأرزاق ومواريث أهل عمواس فورّث بعض الورثة من بعض وأخرجها على الأحياء من ورثة كل منهم.
وسدّ فروج الشام ومسالحه وأخذ يدورها وأعاد تقسيم القواطع وتأمير رجالات المسلمين عليها فجعل:
- معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على دمشق وخراجها
- وسيدنا عبد الله بن قيس على السواحل
وكان قد طلب الناس منه أن يأمر سيدنا بلال يؤذّن فأمره فأذّن فما بقي أحد أدرك النبي ﷺ وبلال يؤذن إلا وبكى حتى بلّ لحيته وسيدنا عمر أشدهم بكاءّ وبكى من لم يدركه ببكائهم ولذكرهم رسول الله ﷺ.
ورجع سيدنا عمر إلى المدينة في شهر ذي القعدة.
مقتبس من الكامل في التاريخ.